ظاهرة الفتاوى الشاذة .. أسباب وحلول (1/2)
بقلم/ تركي عيسى المطيري
مدير إدارة الإفتاء
منصب الإفتاء شأنه عظيم في الإسلام ، وله مكانة مرموقة ، وقد حث الله عز وجل على طلبه في كتابه الكريم : )فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العلماء ورثة الأنبياء ، فَلِعُلوّ هذا المطلب وأهميته ما كان لأحد أن يناله حتى يقطع شوطاً كبيراً من عمره في طلب العلم الشرعي ومعرفة دقائقه ، لأن الفتوى في الحقيقة هي توقيع عن رب العالمين ، وقد قال ابن المُنكدر رحمه الله: «العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم».
لذلك يقول الإمام مالك رحمه الله : «ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»، وروي عن غيره قريباً مما قال؛ لذلك كان لفتاويهم هيبة ولمذاهبهم قوة علمية يصعب توهينها.
ولقد حذر الرب سبحانه وتعالى من القول عليه من غير علم حيث يقول في كتابه العزيز: )ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون( ؛ حيث أرعبت هذه الآية قلوب سلف هذه الأمة وقضَّتْ مضاجعهم، فحملتهم على التورع عن الفتوى، ولم يجاملوا أحداً على حساب دينهم، وكانوا يتدافعون الإفتاء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً كما سيأتي ذكره .
ومن احتد على الإفتاء منهم كان يلتمس مراد الله تعالى في مظانه بعيداً عن الأهواء أو القول بغير علم، ولا يخجل أحدهم إن لم يحر جواباً أن يقول لا أعلم، فمما جاء في ترجمة الإمام مالك رحمه الله تعالى: «أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها»، وهو مَنْ هو في علم الكتاب والسنة والفقه، لكن من المؤسف أن ثَمَّت ظاهرة سيئة بدت تطل برأسها منذ سنوات تناقض هذا المنهج الفريد، مما يوجب على الباحثين المعنيين أن يرصدوا هذه الظاهرة ويبحثوا عن الحلول المناسبة لها.
% الظاهرة :
من عجائب هذا الزمان وهو مليء بالعجائب ! أننا أصبحنا نسمع من غرائب الفتاوى ما يشيب له الرأس، تُنْسب لدين الله من غير تحرير ولا تدقيق، حتى لبَّست على العامة دينهم، وفتحت الباب أمام المختص وغير المختص أن يدلي بدلوه ويقول ما يشاء، وأن يجتهد في إثبات أو نفي الفتوى من غير علم .
ولو كان الذي يتسابق في إطلاقها في وسائل الإعلام ممن هم مولوعون بغريب القول من أحداث الأسنان، أو ممن ليس لهم في العلم ناقة ولا جمل، لَمَا أسفنا عليهم بقدر ما نأسف على بعضٍ ممن أوتوا نصيباً من الكتاب يسارعون في الفتوى غير مراعين للضوابط الشرعية والمسالك العلمية في الإفتاء ، مما تكون لفتواهم تبعات سلبية أكثر بكثير من المصلحة التي كانت في ظنهم .
وفي الحقيقة أنا لا أريد من هذه المقالة الفصل في هذه المسئلة أو تلك، أو تبيين الخطأ من الصواب من تلك الفتاوى، فتلك المهمة لها مقام آخر، وإنما أريد رصد سبب هذا السيل الجرار من هذه الفتاوى التي شغلت العالم، ونقلت الفقه من ميادين التعليم والتعلم إلى ميادين الإعلام والمتاجرة والانتصار للذات، وكثُر الخوض فيها حتى إنه تَكلَّم فيها من ليس له في الفقه حفنة من علم، بل في بعض الأحيان تكون الردود على هذه الفتاوى مشوبة بسوء الظن في المفتي، وقد تأخذ مَنْحىً آخر عند البعض عندما يجعل هذه الفتوى أو تلك معياراً لتصنيف المدارس الفقهية النشطة في الساحة، فبدا لي أن أقف معها وقفة راصدٍ لها، ومتأملٍ لمخاطرها، و محاولٍ لمعرفة أسبابها وطرق علاجها .
% أسباب هذه الظاهرة كثيرة منها :
أ - تعدد وسائل الإعلام وسهولة التعامل معها
إن الإعلام شأنه شأن كل صنعة، فهو سلاح ذو حدين، ويُسْر التعامل معه كان له فضل كبير في نشر العلم وتيسير إيجاد المعلومة، كما كان له الفضل في تسيير مصالح الناس على اختلاف أشكالها .
غير أن الجانب الآخر له كان له الأثر السيئ الواضح على سلوكيات وأفهام ومعتقدات المجتمعات. وما يَهُمنا هنا هو انتشار تلك الفتاوى التي لا زمام لها ولا خطام، فمن السهل جدًّا أن أُنشئ موقعاً خاصًّا على الشبكة العالمية، ثم أنقل تلك الفتاوى الشاذة لجذب الجمهور، بل ومن الأيسر أن أرسل بريداً إلكترونياً أو رسالةsms) ) تحمل من الغثَّ ما تحمل، من فتاوى لا ترتكز على أصول صحيحة.
ولا يَهُمنا أن يكون هذا النقل تمّ بحسن نية أو بخلافها، ولكن من المهم أن نسلط الضوء على وسيلة الانتشار، ناهيك عن الوسائل التي أصبح من فضول القول ذكرها كالتلفاز والمذياع والصحف، فَتَعدُّدُ القنوات الفضائية – لاسيما قنوات الإثارة الإعلامية -كفيلة بأن تبرز إلى الجماهير الكثير من العلماء وغير العلماء من خاملي الذكر وقليلي البضاعة العلمية.
ب - التعالم :
مما ابتليت به الأمة في هذا العصر كثرة المتعالمين، وليس هذا إدعاءً مجردًّا من الدليل، بل هذا واقع ملموس مع الأسف، ونشاهد بين الفينة والأخرى مَنْ يتكلم في مسائل يتورع عنها كبار العلماء، ولقد شاهدنا الكثير من تلك النماذج على صفحات الإنترنت، وعلى بعض الفضائيات حتى أصبحت الفتوى مهنة من لا مهنة له، بل ومن العجيب أن المستفتي لا يعرف المفتي، ولا المفتي –كما يظهر من جوابه– عالم بموضوع الاستفتاء .
وعجبي لا ينقضي من عامة الناس كيف يُسْلمِون دينهم لمن لا يعرفون، فإن كانوا في السابق يقولون سمّوا لنا رجالكم، لمعرفة صحة سند الحديث، بسبب انتشار آفة الوضع، فينبغي علينا اليوم أن نقول سمّوا لنا مفتيكم، وعرّفوا الناس بتاريخه العلمي ومَنْ أَهَّلهَ لمنصب الإفتاء؛ لمعرفة صحة فتواه .
فلقد كثُر المتسرِّعون للإفتاء، المتشوّفون له، حتى كثرت السقطات، وعظمت الزلات، وصدق -والله- الخطيب البغدادي رحمه الله في قوله في (كتابه الفقيه والمتفقه): «وقلَّ مَنْ حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها إلا قَلَّ توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارهاً لذلك غير مختار له، ما وجد مندوحة عنه، ولا قََََََََََََََدرِ أن يحيل بالأمر فيه على غيره إلا كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب» .
ج - غفلة العالم :
هناك علماء أفاضل، لهم شأن عظيم في العلم، نُكِنُّ لهم كل تقدير واحترام؛ غير أنه ليس لهم خبرة كافية في التعامل مع وسائل الإعلام، وربما لا يكونوا مستحضرين أيضاً مدى خطرها؛ فتجدهم يفتون السائل وكأنه لا يسمعهم إلا هو !! فتكون الفتوى خاصة بالمستفتي، وتُنزَّل منزلة العموم، لسعة انتشار الوسيلة الإعلامية؛ فَتُفهم الفتوى خطأً على غير الوجه المراد .
وفي الحقيقة أن هذه الغفلة غير مبرَّرة؛ فعلى العالم الحرص والدُّربة على التعامل مع وسائل الإعلام، لاسيما في وقت لا يخفى مدى تأثير الإعلام على الجماهير.
ث - عدم الالتزام بالمذاهب الإسلامية المشهورة، والأقوال المعتبرة المبنية على الأدلة الصحيحة، مراعية في ذلك الأصول والقواعد الفقهية ، وإتباع الشَّاذ من الأقوال ، والمهجور من الآراء ، والحجة –غير المنطقية– لبعض المفتين بأن هذا ما أدى إليه اجتهاده، وكأنَّ أصحاب الأقوال المعتبرة لا يأخذون من نفس المعين الشرعي الذي يأخذ منه حتى يفتقر لأقوال هجرتها الأُمَّة، ولم يتابع أحد قائلها .
ت - إنزال الفتوى الخاصة منزلة العموم :
وهذه من الأخطاء الفادحة التي يقع فيها بعض المفتين؛ فتجده يُسأل على الهواء في إحدى القنوات عن مسألة خاصة لا تتعدى بحيثياتها دائرة المستفتي، ثم يجيب إجابة عامة، وهذه في الحقيقة من الكوارث! فلا هو خصَّ المستفتي بفتواه، ولا عامة الجمهور مُستَوعَبون بخصوصية الفتوى، وهنا يقع اللبس.
وربما يكابر المفتي فيُصرُّ على صواب فتواه ويرفض التوضيح والبيان، وأنه قد أخطأ في عرضه للفتوى بصيغة العموم.
وكم هو جميل من المفتي أن يكون ذكيا لمّاحاً، فإذا ما عُرض عليه استفتاء يحمل في طياته بعض الخصوصية بحيث لا يَسُوغ للمفتي أن يُصرَّح بفتواه على الملأ، أن يؤجل الفتوى إلى وقت مناسب، كأن يطلب من السائل أن يتصل على هاتفه الخاص مثلاً في وقت لاحق، أو أن يحيله على شيخ آخر أو ...الخ ...
إن ظاهرة الفتاوى الشاذة لها آثار خطيرة على المجتمع ومصلحة الأمة ، وتتجلى هذه المخاطر في جوانب متعددة سنبينها في المقالة القادمة إن شاء الله تعالى ... يتبع